فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله. وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئنًا بذكر الله، قويًا على الشيطان وعلى هواه، مصلحًا في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
والمنهج القرآني- مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم. فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة. ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير..
والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام:
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات}..
فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان. وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا. إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها. فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب:
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}..
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة:
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}..
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف. كما يقع في كل جاهلية. إذا تظل الأجيال تنحرف شيئًا فشيئًا حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية.
وإيًا كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيمًا على طريقته، مسترشدًا بهداه. فلابد أن تتفرق به السبل، ولابد أن ينحرف، ولابد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: الوفاء.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} يقول: فما ابتلاهم به ثم عافاهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: لما ابتلاهم بالشدة والجهد والبلاء ثم أتاهم بالرخاء والعافية، ذم الله أكثرهم عند ذلك فقال: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.
وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم.
وأخرج ابن المنذر عن أبي بن كعب في قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: علم الله يومئذ من يفي ممن لا يفي فقال: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} قال: الذي أخذ من بني آدم في ظهر آدم لم يفوا به {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} قال: القرون الماضية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} قال: وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لأكْثَرِهِمْ} فيه وجوه:
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالًا أي: ما صَادَفْتُ له مالًا ولا لقيته.
الثاني: أن يكون حالًا من {عهد}؛ لأنَّه في الأًل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهدًا لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُو البقاءِ غيره.
وعلى هذين الوجهين ف وَجَدَ متعدِّية لواحد وهو {من عَهْدٍ}، و{منْ} مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين.
الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولًا ثانيًا لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو {مِنْ عَهْدٍ}.
وقد يترجَّحُ هذا بأنَّ وَجَدَ الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك.
وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى: والثَّانية لمعنى آخر.
قوله: {وَإنْ وَجدْنَا} {إنْ} هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها.
وقال الزَّمخشريُّ: وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا.
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاء هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّر ضمير الحديث بل غيره فقال: واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا.
وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في أن المفتوحة على الصَّحيح، وفي كأن التَّشبيهية، وأمَّا إنْ المخففة المكسورة فلا.
وقد تقدَّم إيضاحه.
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما {أكْثَرَهُم}، والثاني {لفاسقين}، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيدًا ذا الحفاظ بدليل دخول إنْ المخفَّفة، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخةِ له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللاَّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد.
قال مَكيٌّ: ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضًا من التشديد والمحذوف الأوَّلِ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون إن نافية، واللاَّم بمعنى إلاَّ في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143].
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، مارقين عن الدِّينِ، وقيل: ناقضين العَهْدَ.
وقوله: {لأكْثَرهُم}، و{أكْثَرهُم}، و{من بعدهم}: إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في {لأكثرهُم} و{أكْثَرهُمْ} لعموم النَّاسِ والضَّمير في {من بعدهم} للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة- أعني ما وجدنا- اعتراضًا كذلك قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عامًا ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضًا بين الخاصين.
وأيضًا، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضًا. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.
نجم في العذر طارِقُهم، وأَقَلَ من سماء الوفاء شارِقُهم، فَعَدِمَ أكثرُهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.
ويقال: شكا مِنْ أكثرِهم إلى أقلِّهم، فالأكثرون مَنْ ردَّتهم القسمة، والأقلون مَنْ قَبِلَتْهم الوصلة. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء}.
الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه {ولو أن أهل القرى} يعني صفات النفس {آمنوا} بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق {واتقوا} مشتبهات النفس {فتحنا عليهم} أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب {فأخذناهم} عاقبناهم بعذاب البعد {بما كسبوا} من مخالفات الحق وموافقات الطبع {بياتًا} في صور القهر {ضحى} في صورة اللطف بسطوات الجذبات {وهم يلعبون} يشتغلون بالدنيا. {إلا القوم الخاسرون} من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. اهـ.